سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} معطوفٌ على الموصول الأول، على تقدير وصلِه بما قبله، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً، أو من حيث المعنى فقط، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبيرُ عن المؤْمَن به بالغيب، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها، الموجبةِ للاتقاء عنها، بخلاف الآخرين، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بينهما لاختلاف الذوات، بل لاختلاف الصفات كما في قوله:
إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام *** وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ
وقولِه: يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له، فإن كمالَ العلم بالعمل، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صِحتِه، وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابين من الخلل كما سيأتي، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف، فإن كلاً من الإيمان الغيبيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن به فضيلةٌ باهرة، مستدعية لما ذكر، والله تعالى أعلم.
وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع. وتكريرُ الموصول للتنبيه على تغايُر القَبيلَيْن، وتباينُ السبيلين فلْيُتأمَّلْ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال.

معنى إنزال الكتاب:
والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام، والمراد {بما أنزل إليك} هو القرآنُ بأسره، والشريعةُ عن آخرها.
والتعبيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّباً حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدَّر، أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ لتحقُّقه منزلةَ الواقع، كما في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعاً ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلاً، وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة، وعدمُ التعرضِ لذكر من أُنزل إليه من الأنبياء عليهم السلام، لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل} الآية. والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ، وبالقرآنِ تفصيلاً من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله فرضُ كفاية، فإن في وجوبه على الكل عَيناً حَرَجاً بيناً، وإخلالاً بأمر المعاش، وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان بتعيُّن الفاعل، والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء، وقد قُرئا على البناء للفاعل.
{وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} الإيقانُ إتقانُ العلم بالشيء بنفي الشكِّ والشبهةِ عنه، ولذلك لا يُسمَّى علمُه تعالى يقيناً، أي يعلمون علماً قطعياً مُزيحاً لما كان أهلُ الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمُهم أن الجنة لا يدخُلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ، واختلافُهم في أن نعيمَ الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا، وهل هو دائم أو لا، وفي تقديم الصلة وبناءِ {يوقنون} على الضمير تعريضٌ بمن عداهم من أهل الكتاب، فإن اعتقادَهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين. والآخرةُ تأنيثُ الآخِر، كما أن الدنيا تأنيثُ الأدنى، غَلَبتا على الدارين فجرَتا مجرى الأسماء، وقرئ بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على اللام، وقرئ {يؤقنون} بقلب الواو همزة، إجراءً لضم ما قبلها مجرى ضمِّها في وجوه ووقتت، ونظيره ما في قوله:
لحب المؤقدان إلى مؤسى *** وجعدة إذ أضاءهما الوقود


وقوله تعالى: {أولئك} إشارةٌ إلى الذين حُكيت خِصالُهم الحميدةُ من حيث اتصافُهم بها، وفيه دلالةٌ على أنهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّز، منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأ، وقوله عز وعلا: {على هُدًى} خبرُه، وما فيه من الإبهام المفهومِ من التنكير لكمال تفخيمِه، كأنه قيل: على أيِّ هدىً لا يُبلَغ كُنهُه، ولا يُقادَرُ قدرُه. وإيرادُ كلمةِ الاستعلاء بناءً على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يَعْتلي الشيء ويستولي عليه يتصرف فيه كيفما يريد، أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارةً تبعية، متفرّعةً على تشبيهه باعتلاء الراكبِ واستوائِه على مركوبه، أو على جعلها قرينةً للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوبِ للإيذان بقوةِ تمكّنِهم منه وكمالِ رسوخهم فيه، وقوله تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً له مبينةً لفخامته الإضافية إثرَ بيانِ فخامته الذاتية، مؤكدةً لها، أي على هدىً كائنٍ من عنده تعالى، وهو شاملٌ لجميع أنواع هدايتِه تعالى، وفنونِ توفيقِه. والتعرّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيمِ الموصوفِ والمضافِ إليهم وتشريفِهما، ولزيادة تحقيقِ مضمونِ الجملة، وتقريرِه ببيانِ ما يوجبُه ويقتضيه وقد أُدغمت النونُ في الراء بغُنةٍ أو بغير غنة، والجملةُ على تقدير كونِ الموصولَين موصولَين بالمتقين، مستقلةٌ لا محل لها من الإعراب، مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} مع زيادة تأكيدٍ له وتحقيق.
كيف لا وكونُ الكتاب هدىً لهم فنٌّ من فنون ما مُنِحوه واستقروا عليه من الهدى، حسبما تحققْتَه، لا سيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح، وقيل: هي واقعةٌ موقعَ الجواب عن سؤالٍ ربما ينشأ مما سبق، كأنه قيل: ما للمنعوتين بما ذُكر من النعوت اختُصّوا بهداية ذلك الكتابِ العظيمِ الشأن؟ وهل هم أحقاءُ بتلك الأثرَة؟ فأجيب بأنهم بسبب اتصافِهم بذلك مالِكُونَ لزِمام أصلِ الهدى الجامعِ لفنونه، المستتبِع للفوز والفلاح، فأيُّ ريبٍ في استحقاقهم لما هو فَرعٌ من فروعه؟
ولقد جار عن سَنن الصواب من قال في تقرير الجواب: بأن أولئك الموصوفين غيرُ مستبعَدٍ أن يفوزوا دون الناسِ بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلاً.
وأما على تقدير كونِهما مفصولَين عنه فهي في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الذي هو الموصولُ الأول، والثاني معطوفٌ عليه، وهذه الجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهنُ من تخصيص ما ذُكر بالمتقين قبل بيانِ مبادىءِ استحقاقِهم لذلك، كأنه قيل: ما بالُ المتقين مخصوصين به؟ فأجيب بشرح ما انطوى عليه اسمُهم إجمالاً من نعوت الكمال، وبيان ما يستدعيه من النتيجة، أي الذين هذه شؤونُهم أحقاءُ بما هو أعظمُ من ذلك، كقولك: أُحِبّ الأنصارَ الذين قارعوا دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا مُهجتَهم في سبيل الله، أولئك سوادُ عيني، وسُوَيْدَاءُ قلبي.
وأعلم أن هذا المسلكَ يُسلك تارةً بإعادة اسمِ مَن استُؤنِفَ عنه الحديثُ، كقولك: أحسنتُ إلى زيدٍ، زيدٌ حقيقٌ بالإحسان، وأخرى بإعادةِ صفتِه، كقولك: أحسنتُ إلى زيدٍ صديقِك القديمِ، أهلٌ لذلك، ولا ريب في أن هذا أبلغُ من الأول، لما فيه من بيان الموجِبِ للحكم، وإيرادُ اسمِ الإشارةِ بمنزلة إعادة الموصوفِ بصفاته المذكورة، مع ما فيه من الإشعار بكمال تميُّزِه بها، وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمورِ المشاهدة، والإيماءِ إلى بُعد منزلتِه كما مر.
هذا وقد جُوِّز أن يكون الموصولُ الأول مُجرىً على المتقين حسبما فُصّل، والثاني مبتدأ، وأولئك إلخ خبرُه، ويُجعل اختصاصُهم بالهدى والفلاح تعريضاً بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيث كانوا يزعُمون أنهم على الهدى، ويطمعون في نيل الفلاح.
{وأولئك هُمُ المفلحون} تكريرُ اسمِ الإشارة لإظهار مزيدِ العنايةِ بشأن المشارِ إليهم، وللتنبيه على أن اتصافَهم بتلك الصفات يقتضي نيلَ كلِّ واحدة من تينك الأثَرَتين، وأن كلاً منهما كافٍ في تميّزهم بها عمن عداهم، ويؤيده توسيطُ العاطف بين الجملتين، بخلاف ما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} فإن التسجيلَ عليهم بكمال الغفلة عبارةٌ عما يفيده تشبيهُهُم بالبهائم، فتكون الجملةُ الثانية مقررةً للأولى، وأما الإفلاحُ الذي هو عبارةٌ عن الفوز بالمطلوب فلمّا كان مغايراً للهدى نتيجةً له وكان كلٌّ منهما في نفسه أعزَّ مرامٍ يتنافس فيه المتنافسون فُعل ما فُعل، و{هم} ضميرُ فصلٍ يفصِل الخبرَ عن الصفة ويؤكِّد النسبة، ويفيد اختصاصَ المُسند بالمسند إليه، أو مبتدأ خبرُه المفلحون، والجملةُ خبرٌ لأولئك، وتعريفُ المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناسُ الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو إشارةً إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم. هذا، وفي بيان اختصاصِ المتقين بنيل هذه المراتبِ الفائقةِ على فنونٍ من الاعتبارات الرائقة اللائقة حسبما أشير إليه في تضاعيف تفسير الآية الكريمة من الترغيب في اقتفاءِ أثرِهم والإرشاد إلى اقتداءِ سيرِهم ما لا يخفى مكانُه، والله وليُّ الهداية والتوفيق.


{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة، إثرَ بيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل، وإنما تُرك العاطفُ بينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالى: {إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} لِمَا بينهما من التنافي في الأسلوب، والتبايُن في الغرض، فإن الأولى مَسوقةٌ لبيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد، وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد، سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله، أو مفصولاً عنه، فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من الكلام المتقدم، فهو من مستتبِعاته لا محالة. وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبيان أحوالِ الكفرة أصالةً، وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير، ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير، فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول، وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلول، وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاتِه.
و {إن} من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها، كإنني ولعلني ونظائرهما، وإعطاءِ معانيه، والتعدي خاصةً في الدخول على اسمين، ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ، وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه، وعند الكوفيين لا عملَ لها في الخبر، بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب. وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل، وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها، فتعين إعمالُ الحرف، وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها، ولذلك يتلقى بها القسمُ، وتُصدَّر بها الأجوبة، ويؤتى بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه، قال المبّرِد: قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه، وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه، وإن عبدَ اللَّه لقائمٌ جوابُ منكرٍ لقيامه.
وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبي لهبٍ وأبي جهلٍ والوليدِ بن المغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود، أو للجنس، وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} الخ، والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة، وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر. ومنه قيل للزارع والليلِ كافرٌ، قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} وعليه قول لبيد:
في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها ***
ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه، وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام به، وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب، فإن مَنْ صدق النبي عليه السلام لا يكاد يجترىء على أمثال ذلك، إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر، واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار، فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة، وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام، كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم {سَوَآء} هو اسمٌ بمعنى الاستواء، نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً، قال تعالى: {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ} متعلق به، ومعناه عندهم، وارتفاعُه على أنه خبر، لأن قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ} مرتفعٌ به على الفاعلية لأن الهمزةَ وأَمْ مجردتان عن معنى الاستفهام، لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما، كما جُرِّد الأمر والنهي لذلك عن معنييهما في قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وحرفُ النداء في قولك: اللهم اغفرْ لنا أيتها العِصابة عن معنى الطلب لمجرد التخصيص، كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدمُه. كقولك: إن زيداً مختصمٌ أخوه وابنُ عمه، أو مبتدأ، و{سَوَاء عَلَيْهِمْ} خبرٌ قُدم عليه اعتناء بشأنه، والجملة خبرٌ لإن، والفعل إنما يمتنعُ الإخبار عنه عند بقائه على حقيقته.
وأما لو أريد به اللفظُ أو مطلقُ الحدث المدلولِ عليه ضمناً على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه، كما في قوله تعالى: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} وفي قولهم: *تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ*، كأنه قيل: إنذارُك وعدمه سيان عليهم، والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدُّد، والتوصّلُ إلى إدخال الهمزة ومُعادلِها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده، كما أشير إليه وقيل: {سواء} مبتدأ وما بعده خبره وليس بذاك لأن مقتضى المقام بيانُ كونِ الإنذار وعدمِه سواءً، لا بيان كون المستوي الإنذارَ وعدمَه، والإنذارُ إعلامُ المَخوفِ للاحتراز عنه، إفعال من نذر بالشيء إذا علِمه فحذِره، والمراد هاهنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي، والاقتصارُ عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلاً، ولأن الإنذار أوقعُ في القلوب، وأشدُّ تأثيراً في النفوس، فإن دفع المضارِّ أهم من جلب المنافع، فحيث لم يتأثروا به فَلألاّ يرفعوا للبشارة رأساً أولى، وقرئ بتوسيط ألفٍ بين الهمزتين مع تحقيقهما، وبتوسيطها والثانية بَيْنَ بين، وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرئ قدَ أفلح، وقرئ بقلب الثانية ألفاً، وقد نسب ذلك إلى اللحن.
{لاَ يُؤْمِنُونَ} جملةٌ مستقلةٌ مؤكدة لما قبلها، مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء، فلا محلَّ لها من الإعراب، أو حال مؤكدةٌ له، أو بدل منه أو خبرٌ لأن، وما قبلها اعتراضٌ بما هو عِلة للحكم، أو خبرٌ ثانٍ على رأي من يجوِّزه عند كونه جملة، والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق، فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون، فظهر استحالةُ إيمانهم لاستلزامه المستحيلَ الذي هو عدمُ مطابقةِ إخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان، باقين على التكليف، ولأن من جملة ما كُلفوه الإيمانَ بعدم إيمانهم المستمر، والحق أن التكليفَ بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكامَ لا تستدعي أغراضاً لا سيما الامتثالُ، لكنه غيرُ واقع للاستقراء، والإخبارُ بوقوعِ الشيء أو بعدمه لا ينفي القُدرة عليه، كإخباره تعالى عما يفعله هو، أو العبدُ باختياره، وليس ما كلفوه الإيمانَ بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يُكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر، بل هو الإيمانُ بجميع ما جاء به النبي عليه السلام إجمالاً، على أن كون الموصولِ عبارةً عنهم ليس معلوماً لهم.
وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ، ولذلك قيل: سواء عليهم، ولم يقل: عليك، كما قيل لعبَدة الأصنام {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8